شباب مكة .. قصة تستحق الخلود

محمد عمر الشيخ – مكة المكرمة

في كل عام يهلّ هلال رمضان على الوجود ، بجماله وضيائه الذي ليس له حدود ، يشرق من الدنيا كل شي، ويخرج من الميت الحيّ ، تتسابق القلوب إلى عناق نهاره الروحاني ، ومسائه القرآني ، ترمم بمرافقته ما اعتلّ من بنيان إيمانها ، وتسقي ما ذبُل من أغصانها ، ينهل من معينه الصائمون ، ويتلذذ بلياليه القائمون ، كل ليلة من لياليه عيدٌ يبهج النفوس ، ويزيل العبوس ، من رام الفوز فيه تحققت غايتُه ، وعلَتْ رايتُه ، ينادي فيه منادٍ فيقول : يا باغي الخير أقبِل .. ويا باغي الشرّ أقصرِ ، فتتنافس الأرواحُ قبل الأبدان ، وينطلق الشِّيب قبل الشُبّان ، كلٌ بين جنبيه همةٌ بقدر همومه ، وعزيمةٌ مستمدّة من الأفق ونجومِه ، فيشمّر المشمِّرون ، ويستعدّ المستعدون ، فالمضمار جاهز ، فمن يا تُرى سيكون الفائز ؟!

فيخرج من بين أولئك فئةٌ وجوهها بالخيرِ مُسفِرة ، ضاحكةً مستبشِرة ، هم رجال الميدان ، وأحسن الفتيان ، قَد أعِدُّوا للسباقِ أحسن الإعداد ، وهُيِّئوا للمنافسة في الخير فجمعيهم على استعداد ،
معهم من القيم والشّيم زادٌ ليس كمثله زاد ، ومن الهمم ما يفتّت الجبال الشِّداد ، فثُلةٌ منهم لفّت سواعدها الفتيّة ، وأيديها السخيّة ، لخدمة الطائفين ، وتسعية المعتمرين ، فجهودهم على مدار الساعة ، لا تُلهِيم عن إبداعهم لُعاعة ، فطوال العام يضيئون المطاف ، ويحسنُون الهُتاف :
من مكة المسرى نبث هتافنا
حيث الهُدى من بطنها قد سالا
كم قد قبسنا النور من نفحاتها
نوراً على طول المدى يتلالا
نحن الشباب الطامحون تقودنا
هممٌ تنير الدرب مهما طالا
أهلٌ لكلّ كريمةٍ وعظيمةٍ
فابنوا على أكتافِنا الآمالا
ومجموعة أخرى ترشد التائهين ، وتعين العاجزين ، جعلوا البذل شِعارا ، والعطاء لخدمة وفد الرحمن فخارا ، ولم ينسوا أن يُسعِفوا المصاب ، ويُزيلوا عن مناسكه الصِّعاب ، ففي أروقة الحرم يمدّون للخدمة قلوبَهم ، عسى أن يغفر الرحمن ذنوبَهم ، وذهب فئامٌ منهم للتوعية بحق الطريق ، حتى يضمحلّ عن الوافد الضّيق ، ونجوم منهم سارت بعربات الإحسان ، ليوصلوا العاجز بأمان ، وهم في ذلك لا يريدون مالا ، ولا يرجون نوالا ، وبدورٌ منهم تنشر قيم السلام والابتسام ، بين زائري البيت الحرام ، أفواههم تفوحُ محبةً للزائرين ، وأُلفةً للمعتمرين ، اتخذوا سبيل الله سبيلا ، ومنهج محمد وأخلاقه قبيلا ، ومن ضمن نجاحاتهم ” إجلال ” ، فهي – والله – للتعظيم مثال ، يأخذون بأيدي من عجز عن أداء العمرة ليؤديها معهُم ، ويشعر بأخوة الإسلام حينما يرافقهُم ، فيكونون له نعم المرافقُ والمعينُ ، والصديق الأمين ، وبعضهم في ساحات المواقِف ، يُسطِّرون أبرز المواقِف ، وضعوا أيديهم في أيدي رجال المرور ، فنالوا الخيراتِ والأجور
أولئك هم شباب مكة الأبطال ، وأبناؤها الرجال ، لهم في كل ميدان سهم ، وفي كل لوحةٍ وسم ، حازوا من الشرف أعلاه ، ومن الفخار أحسنه وأحلاه ، هم شامة في الكون ، ومثال صادق للمساعدة والعون ، خدماتُهم فريدة في البرايا ، لهم مع وفد الرحمن أجمل القصص وأميز الحكايا ، لا يعرفون قياساً للزمن إلا بالعطاء ، ولا لجهودهم إلا الزيادة والإنماء ، سخروا من أوقاتهم ما يجدِّد للبيت حُلَّته ، ويعيد إليه بهجته ونضارتَه ، يعيدون كتابة التاريخ المكي من جديد ، ويصلون طارفه بالتليد ، بمداد من نور ، وتجارة مع الله لا تفنى ولا تبور ، جعلوا التطوع من سِماتهم ، والمسابقة في الخير من صفاتِهم ، قصتهم تستحق الخلود ، ولها الحق أن تضاف إلى لوحة الشرف في هذا الوجود ، فهم عرفوا للبيت حقّ جوارِه ، وخدمة أهلِه وعُمّارِه ، أتعبوا من بَعدهُم ، وكانوا خير سلفٍ لمن خلفَهُم ، يارب لا تحرمهم الأجر والمثوبة ، والأمن من العقوبة ، واجعل الفردوس لهم منزلا ، وجوارَك موئِلاً ، أنت على ذلك قدير ، وبالإجابة جدير .